وفي المَدرسةِ تَعَرَّفتُ على زُملاءَ لِي لم أكُن أعرِفُهم مِن قَبل . فَرِحتُ جِدًّا يا أبِي . أستيقِظُ كُلَّ يَومٍ بِنَشاطٍ ؛ لأذهَبَ لِمَدرَسَتِي . أحضُرُ طَابُورَ الصَّبَاحِ ، وأستَمِعُ للإذاعةِ المَدرَسِيَّةِ ، وأقومُ بِعَملِ تَمَارينَ رِيَاضِيَّةٍ في الطَّابُورِ مع زُملائِي . ثُمَّ أدخُلُ فَصلِي لأتلَقَّى مَعلُوماتٍ جديدةً ، ولأتعلَّمَ القِراءةَ والكِتابَةَ .
أتعلَمُ يا أبِي أنَّ المُعلِّمَةَ كانت تَكتُبُ لَنا الأحرُفَ في كُرَّاسَاتِنا ، وتطلبُ مِنَّا كِتابَتَها في البيتِ ، بَعدَ أن تُكَرِّرَها علينا مِرارًا ، ونُحن نُرَدِّدُ وراءها ؟!
كان زُملائِي يَعُودُونَ في اليومِ التَّالِي ، وقد أدَّوْا ما طلبته المُعلِّمَةُ ، وهُم فَرِحُونَ بذلك ، وقد سَاعَدَهم آبَاؤهم أو أُمَّهَاتُهم . وأنا الوَحِيدُ داخِلَ فَصلِي يا أبِي الذي يأتِي بكُرَّاسَتِهِ كَما هِيَ ، ولَم تُفْتَح في البيتِ . أتدري لماذا يا أبِي ؟ لأنَّكَ لم تَكُن تسألني أنتَ أو أُمِّي عَمَّا دَرستُ أو تعلَّمتً أو طُلِبَ مِنِّي مِن واجِبٍ بالمَدرسةِ . لم تَكُن تُتابِعني أنتَ ولا أُمِّي ، ولم تَكُونا على عِلْمٍ بشئٍ عن دَراسَتِي ولا عن مَدرسَتِي .
أبي ، لَقد انتقلتُ مِنَ الصَّفِّ الأول الابتدائِيِّ للصَّفِّ الثَّاني بالغِشِّ ، نَعم بالغِشِّ يا أبي ، وكذلك انتقلتُ مِنَ الصَّفِّ الثَّانِي للصَّفِّ الثَّالِثِ بالغِشِّ . وللأسفِ لا أعرِفُ ما هُوَ الغِشُّ ؟ ولا كيف أغُشُّ ؟ لكنْ المُعلِّمَةُ كانت تَكتُبُ لِي حُلُولَ الأسئلةِ في ورقةِ الإجابةِ ، أو تُعطِيني ورقةً فيها إجاباتُ الأسئلةِ ؛ لأقومَ برَسْمِها كما هِيَ . أتدري لماذا يا أبِي ؟ لأنِّي لم أكُن أفهمُ ماذا بالورقةِ ، ولم أكُن أعرِفُ شيئًا عن المَكتوبِ فيها .
ولم أكُن أُحِبُّ الغِشَّ يا أبِي ، لَكِنِّي كُنتُ مُضطرٌّ لقَبُولِ ذلك ، خاصةً وأنَّكَ قد تَضربني إنْ علِمتَ برُسُوبي في الاختبارات ، وقد تُعاقبني بأَشَدِّ من ذلك . فلَيتَني رَسبتُ .. لَيتَني رَسبتُ لِتُعِيدَ حِسَابَ أوراقِكَ مِن جديدٍ يا أبِي .
لَقد كانت مَناهِجُنا التي نَدرسُها بسيطةً جِدًّا ، ولا تَحتاجُ وقتًا كبيرًا في الحِفظِ والمُراجَعةِ والمُتابَعةِ ، ومع ذلك لَم أجِد أحدًا بِجَانبي في أَهَمِّ مَراحِل تعليمي ، يُعاونني ، ويُعلِّمُني ، ويُشَجِّعُني ، ويَسألُ عن مُستوايَ الدِّراسِيِّ .
أتعلَمُ يا أبِي أَنِّي الآنَ بالصَّفِ الثَّالِثِ الابتدائِيِّ ، ولا أستطيعُ كِتابةَ اسمِكَ ، فقط أكتُبُ اسمي بصُعُوبةٍ بالِغَةٍ .
لَقد أحزَنَنِي حالِي حينَ نَظَرَت مُعلِّمَتي لورقةِ الاختبارِ ؛ لتتأكَّدَ مِن اسمي ورَقمِ جُلُوسي ، فوَجدتني قد كتبتُ اسمي ولم أكتُب اسمَكَ ، فسألتني عنه ، وقالت لي : اكتُبهُ ، فلم أُجِبها ، ولم أُحَرِّك قلمِي . فسألتني : أتعرِفُ كيف يُكتَب ؟ فَهَززتُ رأسي أنْ لا . حِينها أمسَكَتْ بقلمِي ، وكَتَبَتهُ لي . لَقد كان زميلي يَجلِسُ بِجَانبي ، فقال للمُعلِّمةِ : أأكتُبهُ لَه ؟ فقالت : لا .
أتدري كَم أثَّرَّ ذلك المَوقِفُ في نَفْسِي يا أبِي ؟! لو كُنتَ تُتابِعني أنتَ وأُمِّي ، وتذهبا لمَدرستي ؛ لتسألا مُعَلِّمِيَّ عَنِّي ، وتُتابِعاني في البيتِ ، وتُساعِداني في حَلِّ واجِبي ، ما وَصَلتُ إلى هذا الحال .
أتعلَمُ يا أبِي أَنِّي صِرتُ غَبِيًّا ، نَعم صِرتُ غَبِيًّا . وقد قُمتَ أنتَ وأُمِّي بِجَعلي غَبِيًّا ، لا أفهمُ شيئًا في الحَياةِ ولا في العِلْمِ ؛ وذلك بإهمالِكما لِي !
أبي إنِّي حَزِينٌ على نَفْسِي . في اختبارِ الُّلغَةِ العَربيَّةِ كان المُعلِّمُ يقرأ الاختبارَ ، وأنا أنظُرُ حَولِي ، قَلَبَ الورقةَ ، وصار يقرأ في الورقةِ الثَّانيَّةِ ، وأنا أنظُرُ في الورقةِ الثَّالِثةِ ، رغم أَنِّي لا أدري شيئًا عَمَّا فيها . وحِينَ وَجَدَ المُعلِّمُ كثيرًا مِن زُملائِي لا يَستطيعونَ حَلَّ الاختبارَ ، بدأ يقرأُ الأسئلةَ ويُجيبُ عليها ، ولم أكُن أدري عن ذلك ، ولم أُرَكِّز معه أصلاً . وسَمِعتُ تلمِيذةً تقولُ له : يا أُستاذ ، أنتَ تَحُلُّ الاختبارَ .
أتدري لماذا قالت ذلك يا أبِي ؟ لأنَّ أهلَها يَهتمُّونَ بها ، ويُتابِعُونها ، ويَعرِفونَ مُستواها الدِّراسِيَّ ، فَهِيَ قد ذاكَرت ، واجتهَدَت ، ولا تُحِبُّ أن يَضِيعَ جُهدُها وتَعَبُها هَباءً مَنثُورًا .
وجاءت مُعلِّمةً الُّلغةِ الانجليزيَّةِ في يَومٍ آخَرَ ؛ لتقرأ علينا الاختبارَ ، وكان الاختبارُ سهلاً جِدًّا يا أبِي ، ولَكِنِّي – مع ذلك – لم أكُن أفهمُ فيه شيئًا ، إذْ كيف أفهمُهُ وأنا أصلاً لا أكتُبُ اسمي – وهو بالُّلغةِ العَربيَّةِ – إلَّا بصُعوبة ، ورُبَّما أخطأتُ في كِتابتِهِ ؟!
بدأت المُعلِّمةُ تقرأ الاختبارَ ، وأكَّدَت مِرارًا وتِكرارًا على عِدَّةِ نِقاطٍ مُهِمَّةٍ ، وهِيَ : عَدَمُ وَضْعِ خَطٍّ تحتَ الإجابةِ ، بل وَضْعُ دائِرة – عَدَمُ إيصال صُورةٍ بصُورةٍ أو جُملةٍ بجُملةٍ – عَدَمُ اختيارِ Yes و No معًا ، بل اختيارُ واحدةٍ منهما فقط عند الإجابةِ على الأسئلة – ضرورةُ كِتابةِ العِبارةِ الأخيرةِ في ورقةِ الاختبار ؛ بمَعنى نسخها كما هِيَ بِخَطٍّ جميلٍ ، فدرجتُها مَضمونةٌ . ومع كُلِّ هذا الوضوحِ يا أبي ، لم أفعل شيئًا مِن ذلك .
لَقد قامت المُعلِّمةُ بتصحيحِ الاختبارِ ، ومِن بين الأوراقِ كانت هُناكَ ورقةٌ حاصِلةٌ على درجةٍ واحِدةٍ فقط مِن ثلاثينَ درجة ، وأَظُنُّها ورقتي يا أبِي .
فيَا أسفَى على سَنواتٍ ضاعت مِن عُمُري بالمَدرسةِ ! ويا أسفَى على أموالٍ أُنفِقَت على تعليمي ودِراستي ، ولكنْ دُونَ جَدْوَى ! ويا أسفَى على حَالِي وأنا هكذا بين زُملائِي ، فقيرٌ مِن كُلِّ شئ ! قد كُنتُ أحلُمُ بأشياءَ كثيرةٍ ، مِنها أن أُصبِحَ مُعلِّمًا . وأَنَّى لِي ذلكَ وأنا لا أعلَمُ عن التَّعلِيمِ شيئًا ، ولا حتَّى عن الأحرُفِ الأبجدِيَّةِ ؟!
كَم أتألَّمُ يا أبِي حِينَ أرى زُملائِي يُمسِكُونَ بأقلامِهِم في حِصَّةِ الإملاءِ ، ويَكتُبُونَ مَا يُملِيهِ علينا مُعلِّمُنا !