نسمة الربيع المؤلمة
عندما تهديك الدنيا الحزن فإن من الصعب أن تجد الفرح ليحل محل ذاك الأسى، فالدنيا هي سر القدر، فتارة تكون جميلة بفرحها وتارة تكون كريمة بحزنها، والقوي هو من يرسم الابتسامة رغم الدموع التي تسيل على خديه، ولكنه يندر ما يستطيع، كيف ذلك؟ والأحزان تسير مع أحلامه خطوة بخطوة، كأنها ماضيه السعيد وحاضره الأليم ومستقبله المجهول.
فها هي الدنيا تضع قيس بإختيار صعب، فهو شاب يبلغ من العمر عشرين عاماً، له شعر ذهبي يشعر بدفء الشمس، وعينان زرقاوان يوحيان بصفاء السماء، قد أحب فتاة فقيرة تدعى سلام، لها شعر شديد السواد كظلمة الليل وعيناها اللتان يتخلل سواد البؤبؤ بياضهما، كان والداه الغنيان لم يريدا له أن تتم فرحته بالزواج بها، لأنهما أرادا أن يزوجاه بابنة عمه التي لم يحبها ولن يحبها لأن قلبه مقرون بتلك الفتاة، لذلك خيراه بين الزواج بابنة عمه والبقاء معهما بغناهما، وبين الرحيل بعيداً مع تلك الفتاة لكنه لم يتردد ولو للحظة، وقرر أن يبدأ حياة جديدة مع حبيبته بعيداً عن أبويه، فمضى معها إلى المجهول تاركاً وراء ظهره أحلامه التي كانت تستحوذ على عقله منذ الصغر.
فقد تزوج قيس بسلام، ورحلا بعيداً عن قريتهما وبدأت حياة المشقة التي تصورها قيس، بدا كأنه يفكر كيف ستكون هذه الحياة! أسيكون لنا فيها نصيب من السعادة! أم أن الألم سيخيم عليها! انطلقا وهو يفكر في ذلك، وسارا لعدة أيام لا مأوى لهما سوى الأرض ولا حامية لهما من غدر الطبيعة سوى الأشجار، وفي مساء يوم استلقيا تحت شجرة ليناما، فلفت نظرهما منظر البدر الجميل، ونوره الذي يتحدى ظلمة الليل ليرسل طريق الهدى لهما، وبينما هما ينظران إلى ذاك المنظر الخلاب، سمع قيس صوت خافت يأتي صداه مع الرياح، فبقي مترقب لذاك الصوت حتى رأى نوراً صغيراً يخرج من بين الأشجار، لم يعرف ما يفعل! لكنه نظر إلى سلام وطلب منها أن تختبئ خلف الشجرة، وكان الضوء يسير من الصوت حتى وصل له، نظر قيس من خلال عينيه نظرة ثاقبة نحو حامل المصباح فرأى شيخاً ملامحه غير واضحة من ظلمة الليل، يمتطي فرساً وبجانبه شاب يمتطي فرساً آخر، اقتربا ببطئ منه وفي كل خطوة يخطوانها نحوه يفكر، أسوف تنتهي حياتي هنا! ضحيت كثيراً من أجلها والآن أموت، كان الشيخ قد وقف أمام قيس وابتسم، قال له بصوت خافت: ماذا تفعل هنا وحدك! جاوبه قيس والكلمات تخرج من شفتيه رغماً عنه: أنا تائه في هذه الدنيا، فرد عليه الشيخ قائلاً: ما رأيك أن تأتي معنا إلى قريتنا، فربما يصيبك مكروه وحدك، قال قيس: أنا لست وحيداً، فمعي زوجتي، فقال الشيخ: إذن أحضرها وتعال معنا، فذهب قيس خلف الشجرة وأتى بسلام وطلب الشيخ من الشاب أن يركب معه وركب قيس وسلام على فرس وانطلقا من جديد لكن مع ذاك الشيخ.
كانت ليلة طويلة على قيس، فسلام نامت بهدوء وهو يكلم الشيخ ويقص عليه قصته، ومع بزوغ الفجر وصلوا القرية فقال الشيخ: لا بد لك أن تعمل إذا أردت أن تعيش هنا، استغرب قيس! أعيش! أتسمح لي بالعيش في القرية؟ ضحك الشيخ وقال: ولما لا، هذا بيت لي وأرض أهبها لك فاعمل بها.
أحس قيس أن الحياة ابتسمت له من جديد، وبدأ يعمل بالأرض مع سلام والسعادة تغمره، يزرع الأرض ويحصدها، وفي الليل يصطحب سلام بجولة في الحقول حول القرية وينظران إلى القمر الذي كان سبب فرحهما من جديد، فقد مضت سنة على عمله وسكنه في هذه القرية وسلام تزف لزوجها خبراً سعيد، أنها حامل لكنها لم تخبره وتنتظر حتى يخرج بها إلى القمر لتخبره بذلك. وفي الليل، جلسا كلاهما يتأملان القمر ومن السكون خرج صوت سلام: قيس، أنا حامل، قيس: حامل! بانت البسمة على وجهه المتعب، نعم، أنت حامل، وبدأ يظهر في مخيلته أحلامه التي ماتت منذ سنة كأنها تحيا مع هذا الطفل.
وجاء الربيع وسلام تنتظر مولودها بعد اربعة أشهر، وقيس يتلهف ليرى طفله يكبر بين يديه، لذلك خرج باكراً للعمل، ليضمن أن يعيش هذا الطفل بقوة وحنان. وعند الظهيرة أعدت سلام الغداء وذهبت به إلى الحقل حيث كان قيس يعمل، وهي بالطريق كانت أفعى سامة تتربص لها وتتبعها بهدوء، وفي لحظة واحدة لدغت الأفعى سلام، كانت لدغة مؤلمة لسلام، فجلست تنظر ما أصابها؟ لكنها لم تر تلك الأفعى وأغشي عليها، وفي تلك الآونة كان قيس يعمل بجد، نظر إلى السماء فرأى الشمس في وسطها، تنشر دفئها بحنان، فاستغرب أن سلام لم تأت بعد، فقرر أن يذهب هو للمنزل ليرى ما أصابها، فمشى في خطى بطيئة، لكن توارده الشك بأنه حصل لسلام مكروه فاسرع في سيره حتى أنه رأى شخصاً ممداً على الأرض، أسرع وهو يأمل أن لا يكون ذاك الشخص هو سلام، فأسرع وأسرع لكنه فوجئ حين رأى سلام مغشياً عليها، لم يدر ماذا يفعل؟ فحملها مسرعاً وذهب بها إلى ذاك الشيخ فقد كان حكيماً، وحضنها مسرعاً لكنه أحس أن بيت ذلك الشيخ يبتعد عنه، حتى وصله، استأذن بالدخول بسرعة وقال أرجوك يا أبت، ساعدها، فوضعها الشيخ على الفراش، وهدأه وقال: لا تخف، بدأ الشيخ بالنظر إلى عينيها، لكن لا حياة فيها، ُذهل الشيخ وقال: للأسف، لقد ماتت، خرجت منه الكلمات ثقيلة بطيئة، نظر قيس إلى سلام وقال: لا، لا يمكن، وتقدم إليها والدموع تسيل على خديه من الحزن، حتى وصل إليها، وقال: سلام، لا تموتي، أرجوك لم تنتهي حياتنا هنا، لا بد أن يأتي طفلنا ونسعد، لكنه لم يسمع سوى صدى صوته.
ومرت الأيام، وقيس يحبس نفسه داخل بيته، كأنه يلوم نفسه على موتها، لم يأكل ولم يشرب منذ أيام، وفجأة طرق الباب، فتح الباب فإذا به الشيخ يحمل في يديه الطعام والشراب وقال: لا يمكنك أن تعيش دون طعام، يجب أن تأكل، لكن قيس لم يجب حتى بكلمة، عاد إلى كرسيه بصمت وعادت الدموع إلى وجهه الحزين، ترك الشيخ الطعام وخرج، فسمع بكاء قيس يعلو ويعلو، لم يدر ماذا يفعل! فقد كان يعيش من أجل سلام وطفله، لكنهما ماتا معاً وتركاه وحيداً يعاني ألم الفراق وظلمة الوحدة، وبعد أسبوعين من موت سلام، قرر قيس أن يخرج إلى الحقل، خرج مع بزوغ الفجر، قبل شروق الشمس، سار نحو حقله، يسمع لحناً تعزفه العصافير من تغريدها، حتى وصل الحقل، نظر إليه وبدأ بالبكاء بصمت لا يمكن سماع نفسه، لكنه سمع صوت تهاوي، التفت إليها، فرأى قطرات الندى تهوي بنفسها من أعلى النبتة، كأنها تريد الموت على أن تعيش، فجاءته فكرة الموت وقال: ليس هذا عالمي الذي أبحث عنه، إني غريب، وأشعر بغربتي في كل دقيقة، لم أعد استطيع التنفس بسهولة، إني غريب، غريب يا صاحبي، أجدر بي أن أموت بسرعة من أن أموت ببطء وأدفن حياتي في أحشاء الطبيعة، وعاد الى بيته والموت يسيطر على افكاره وبات وهو يحلم بذاك الموت.
وفي اليوم التالي، قرر أن يعزف لحن موته على الحان نسمات الربيع، فخرج نحو مجهول، حتى وصل جبلا شاهقاً نظر إليه وقال: فكرت قبل الانتحار بالحياة الدنيا، فرأيتها غير صافية وخيل إلي أني أتبين من ورائها حياة أصفى، رأيت الأحياء لم يولدوا للحياة، بل ساروا في سبيلها إلى الموت، فاستراحوا هناك، ورأيت الموت أحفظ لزواره من الحياة الدنيا، وأبر بهم فلهذا سهل علي الانتحار.
وصعد إلى قمة الجبل، فقرر أن يهوي بنفسه من أعلى هذا الجبل، ليعود إلى سلام الاسم الذي عنى له الاطمئنان والحنان، فرأى أنه يجلس على القمة وأن الأفق مليءَ بالشواظ الأحمر، سكون، وفجأة تهب نسمة تحمل في طياتها لحن موته، يحاول أن يمسك بشيء فلا يجد، فيقذف بنفسه من أعلى القمة ويسقط حيث لا يعود يجد جسده، لا يجد سوى ذكرياته مع سلام
منجد محمد